فصل: تفسير الآيات (19- 22):

مساءً 6 :56
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
19
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (19- 22):

{وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}
قوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ} أي الكافر والمؤمن والجاهل والعالم. مثل: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100]. {وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ} قال الأخفش سعيد: {لَا} زائدة، والمعنى ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، وقيل بالعكس.
وقال رؤبة ابن العجاج: الحرور تكون بالنهار خاصة، والسموم يكون بالليل خاصة، حكاه المهدوي.
وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. النحاس: وهذا أصح، لان الحرور فعول من الحر، وفية معنى التكثير، أي الحر المؤذي. قلت: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم». وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة: «فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها» وهذا يجمع تلك الأقوال، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار، فتأمله.
وقيل: المراد بالظل والحرور الجنة والنار، فالجنة ذات ظل دائم، كما قال تعالى: {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} [الرعد: 35] والنار ذات حرور، وقال معناه السدي.
وقال ابن عباس: أي ظل الليل، وحر السموم بالنهار. قطرب: الحرور الحر، والظل البرد. {وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ} قال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال، أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ} أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. {وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي كما لا تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وعمرو ابن ميمون: {بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} بحذف التنوين تخفيفا، أي هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.

.تفسير الآية رقم (23):

{إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)}
أي رسول منذر، فليس عليك إلا التبليغ، ليس لك من الهدي شيء إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.

.تفسير الآية رقم (24):

{إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} أي بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته. {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ} أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج: إلا العرب.

.تفسير الآيات (25- 26):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)}
قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ} يعني كفار قريش. {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أنبياءهم، يسلي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. {وَبِالزُّبُرِ} أي الكتب المكتوبة. {وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ} أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين.
وقيل: يرجع البينات والزبر والكتاب إلى معنى واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في {نكيري} حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله، والحمد لله.

.تفسير الآيات (27- 28):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} هذه الرؤية رؤية القلب والعلم، أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل، ف {أَنَّ} واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. {فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ} هو من باب تلوين الخطاب. {مُخْتَلِفاً أَلْوانُها} نصبت {مُخْتَلِفاً} نعتا ل {ثَمَراتٍ}. {أَلْوانُها} رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتا ل {ثَمَراتٍ} لما عاد عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن رفعه، ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه.
{بِهِ} أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها} الجدد جمع جدة، وهي الطرائق المختلفة الألوان، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جدد بقسم الجيم والدال نحو سرير وسرر.
وقال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد ** طاو ويرتع بعد الصيف عريانا

وقيل: إن الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري: والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة، والجمع جدد، قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها} أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جدة من الامر، إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرأ الزهري {جدد} بالضم جمع جديدة، وهي الجدة، يقال: جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع وروي عنه {جدد} بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ} وقرئ: {وَالدَّوَابِّ} مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: {وَلَا الضَّالِّينَ} لان كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين فحرك ذلك أولهما وحذف هذا آخرهما قاله الزمخشري. {وَالأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: {مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} فذكر الضمير مراعاة ل {مِنَ} قاله المؤرج.
وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى {ما} مضمرة مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه أي أبيض وأحمر وأسود. {وَغَرابِيبُ سُودٌ} قال أبو عبيدة: الغربيب الشديد السواد، ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب، أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود بدلا من غرابيب لان توكيد الألوان لا يتقدم.
وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله يبغض الشيخ الغربيب» يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس:
العين طامحة واليد سابحة ** والرجل لافحة والوجه غربيب

وقال آخر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية ** يعصر منها ملاحي وغربيب

{كَذلِكَ} هنا تمام الكلام، أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية، ثم استأنف فقال: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته، فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} قال: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير.
وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم.
وقال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد ابن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم تلا هذه الآية- إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله وملائكته وأهل سماواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير» الخبر مرسل. قال الدارمي: وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد ابن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من الصبر، فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب.
الزمخشري: فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ {إنما يخشى الله} بالرفع {مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} بالنصب، وهو عمر بن عبد العزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.

.تفسير الآيات (29- 30):

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} هذه آية القراء العاملين العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن.
{يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ} قال أحمد بن يحيى: خبر {إِنَّ} {يَرْجُونَ}. {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قيل: الزيادة الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 38- 37]، وقوله في آخر النساء: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] وهناك بيناه. {إِنَّهُ غَفُورٌ} للذنوب. {شَكُورٌ} يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}
قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ} يعني القرآن. {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب. {إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}.

.تفسير الآيات (32- 35):

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: هذه الآية مشكلة، لأنه قال جل وعز: {اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} ثم قال: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال النحاس: فمن أصح ما روى في ذلك ما روي عن ابن عباس {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال: الكافر، رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضا. وعن ابن عباس أيضا {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} قال: نجت فرقتان، ويكون التقدير في العربية: فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه، أي كافر.
وقال الحسن: أي فاسق. ويكون الضمير الذي في {يَدْخُلُونَها} يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. وعن عكرمة وقتادة والضحاك والفراء أن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق. قالوا: وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة {وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً} [الواقعة: 7] الآية. قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفي ظالم. ورواه مجاهد عن ابن عباس. قال مجاهد: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} أصحاب المشأمة، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} أصحاب الميمنة، {وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} السابقون من الناس كلهم.
وقيل: الضمير في {يَدْخُلُونَها} يعود على الثلاثة الأصناف، على ألا يكون الظالم ها هنا كافرا ولا فاسقا. وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء، وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة، والتقدير على هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر. والمقتصد قال محمد بن يزيد: هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها، فيكون {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين، وروي عن أبي سعيد الخدري.
وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم- ورب الكعبة- وتفاضلوا بأعمالهم.
وقال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
وروى أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية وقال: «كلهم في الجنة». وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له». فعلى هذا القول يقدر مفعول الاصطفاء من قوله: {أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}
مضافا حذف كما حذف المضاف في {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي اصطفينا دينهم فبقى اصطفيناهم، فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} [هود: 31] أي تزدريهم، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة: 132]. قال النحاس: وقول ثالث- يكون الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته، فيكون: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل النظر، لان الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. قلت: القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله، لان الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله، ولا اصطفى دينهم. وهذا قول ستة من الصحابة، وحسبك. وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية.
الثانية: قوله تعالى: {أَوْرَثْنَا الْكِتابَ} أي أعطينا. والميراث عطاء حقيقة أو مجازا، فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر. و{الْكِتابَ} ها هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، وكان الله تعالى لما أعطى أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا. {اصْطَفَيْنا} أي اخترنا. واشتقاقه من الصفو، وهو الخلوص من شوائب الكدر. وأصله اصتفونا، فأبدلت التاء طاء والواو ياء. {مِنْ عِبادِنا} قيل المراد أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن عباس وغيره. وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لامة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأول لم يرثوه.
وقيل: المصطفون الأنبياء، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر، قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ} [النمل: 16]، وقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب. {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} من وقع في صغيرة. قال ابن عطية: وهذا قول مردود من غير ما وجه. قال الضحاك: معنى {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك. الحسن: من أممهم، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم. والآية في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق، فقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل.
وقال ذو النون المصري: الظالم الذاكر الله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه.
وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الافعال، والسابق صاحب الأحوال.
وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب.
وقيل: الظالم الزاهد في الدنيا، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة، والمقتصد العارف، والسابق المحب.
وقيل: الظالم الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد الصابر على البلاء، والسابق المتلذذ بالبلاء.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق الذي يعبده على الهيبة.
وقيل: الظالم الذي أعطي فمنع، والمقتصد الذي أعطي فبذل، والسابق الذي يمنع فشكر وآثر. يروى أن عابدين التقيا فقال: كيف حال إخوانكم بالبصرة؟ قال: بخير، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا. فقال: هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا.
وقيل: الظالم من استغنى بماله، والمقتصد من أستغنى بدينه، والسابق من أستغنى بربه.
وقيل: الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به، والسابق القارئ للقرآن العامل به والعالم به.
وقيل: السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره.
وقال بعض أهل العلم في هذا: بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة، فهو أولى بالظلم.
وقيل: الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي يحب ربه.
وقيل: الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف وينصف، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف. وقالت عائشة رضي الله عنها: السابق الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف، وهم كلهم مغفور لهم. قلت: ذكر هذه الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره. وبالجملة فهم طرفان وواسطة، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل، ومنه قول جابر بن حني الثعلبي:
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا لنا ** وليس علينا قتلهم بمحرم

أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد، أي ما لم يجوروا، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا، فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات. {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} يعني إتياننا الكتاب لهم.
وقيل: ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير.
وقيل: وعد الجنة لهؤلاء الثلاثة فضل كبير.
الثالثة: وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل: التقديم في الذكر لا يقتضي تشريفا، كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20].
وقيل: قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من القليل، ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره وقيل: قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه. واتكل المقتصد على حسن ظنه، والسابق على طاعته.
وقيل: قدم الظالم لئلا ييئس من رحمة الله، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله.
وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه: قدم الظالم ليخبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء، لان الاصطفاء يوجب الإرث، لا الإرث يوجب الاصطفاء، ولذلك قيل في الحكمة: صحح النسبة ثم ادع في الميراث.
وقيل: أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب، كما قدم الصوامع والبيع في سورة الحج على المساجد، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله.
وقيل: إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى، كقوله تعالى: {لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167]، وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، وقوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] قلت: ولقد أحسن من قال:
وغاية هذا الجود أنت وإنما ** يوافي إلى الغايات في آخر الامر

الرابعة: قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} جمعهم في الدخول لأنه ميراث، والعاق والبار في الميراث سواء إذا كانوا معترفين بالنسب، فالعاصي والمطيع مقرون بالرب. وقرئ: {جنة عدن} على الافراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين لقلتهم، على ما تقدم. و{جنات عدن} بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها. وهذا للجميع، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وقرأ أبو عمرو {يدخلونها} بضم الياء وفتح الخاء. قال: لقوله: {يُحَلَّوْنَ}. وقد مضى في الحج الكلام في قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ}. {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قال أبو ثابت: دخل رجل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحدتي يسر لي جليسا صالحا. فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا فلانا أسعد بذلك منك، سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} قال: «فيجيء هذا السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ويوبخ ويقرع ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}» وفي لفظ آخر: «وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله برحمته فهم الذين يقولون: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} إلى قوله: {ولا يمسنا فيها لغوب}».
وقيل: هو الذي يؤخذ منه في مقامه، يعني يكفر عنه بما يصيبه من الهم والحزن، ومنه قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] يعني في الدنيا. قال الثعلبي: وهذا التأويل أشبه بالظاهر، لأنه قال: {جنات عدن يدخلونها}، ولقوله: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} والكافر والمنافق لم يصطفوا. قلت: وهذا هو الصحيح، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها وطيب وطعمها مر». فأخبر أن المنافق يقرؤه، وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن المنافق في الدرك الأسفل من النار، وكثير من الكفار واليهود والنصارى يقرءونه في زماننا هذا.
وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. والنصب: التعب. واللغوب: الإعياء.